سرياليزم | أرشيف

سميرة عزّام

 

العنوان الأصلي: سرياليزم.

المصدر: «مجلّة الأديب».

الكاتب (ة): سميرة عزّام.

زمن النشر: 1 آب 1952.

 

سميرة عزّام (1927-1967)؛ كاتبة وصحفيّة ومترجمة فلسطينيّة ولدت في مدينة عكّا عام 1927. هاجرت مع عائلتها بعد النكبة إلى لبنان، ثمّ غادرت عائلتها لتصبح مديرة مدرسة للبنات في العراق الّتي بدأت فيه حياتها المهنيّة الإذاعيّة والصحفيّة. في كانون الأوّل عام 1959 تزوّجت من الأديب يوسف حسن، وعادت إلى بيروت، حيث انشغلت بالكتابة والنشاط السياسيّ، واشتغلت على ترجمة العديد من الكلاسيكيّات الأدبيّة من الإنجليزيّة إلى العربيّة. تُعْرَفُ عزّام بأنّها رائدة القصّة القصيرة الفلسطينيّة، وقد نشرت العديد من المجموعات القصصيّة ومنها؛ «أشياء صغيرة» (1954)، «الظلّ الكبير» (1956)، «قصص أخرى» (1956)، «الساعة والإنسان» (1963).

 


 

لو كانت مثلي ومثل غيري من الفنّانين وخالقي اللّوحات، والمتفنّنين والمحسوبين على الفنّ؛ ترى الإنسان فتعيه كما يعيه كلّ بصير وترسمه بشرًا سويًّا لا هو بالمسخ ولا بالأعجوبة، له عينان وفم واحد وطرفان علويّان وآخران سفليّان، أو كانت ترى البقرة فترسمها تدبّ على أربع، لها ذنب واحد لا عدّة، أو ترى الشجرة فتنقلها خضراء فينانة ليس لها شكل أفعى بألف رأس؛ أجل، لو كانت ترى الأشياء بالعين الّتي أبصر بها أنا ويبصر بها كلّ إنسيّ، ومن الزاوية الّتي اعتاد رعاة الفنّ أن ينظروا منها إلى الأشياء، لكنت ارتضيت منها أن تعتنق الفنّ وتسخو عليه بكلّ ما في وسعها من جهد وشباب ومال.

أمّا أن يكون حماسها كهذا الجنون الّذي هي فيه، وأن تكون تضحيتها أعظم من هذا السخف الّذي تجري به ريشتها وأن يكون مذهبها في التعبير ذلك النهج الّذي يسمّونه «سرياليًّا»، وأن يصرفها هذا الفنّ السرياليّ عن أن تحسّ بهذا الشعور الّذي أحمله لها في قلبي؛ فقد كان ذلك كلّه فوق ما يهضمه فنّان.. من مدرستي.

عرفتها منذ جاءت طالبة إلى أكاديميّة الفنون الّتي أدْرُسُ فيها، وأذكر تمامًا كيف بدت لعينيّ لأوّل وهلة؛ فتاة على أبواب الخامسة والعشرين صرفتها هستيريّة الفنّ عن النظر إلى المرآة فلم تعرف أنّ لها عينين حلوتين، وقسمات مميّزة، وجسمًا قد يبدو ألف مرّة لو نزعت ذلك القميص «الرجاليّ» الخشن الّذي ترتديه. أقبلت على المعهد فلم تحفل بالنظر إلى الموجودين، بل ظلّت عيناها تقفزان من لوحة إلى أخرى؛ ألوان ونماذج نساء جميلات، صغار لهنّ بسمات الملائكة، طبيعة ساحرة تطلّ من كلّ لوحة سماءً وماءً وشجرًا، وصور ملوك وعظماء، حتّى استقرّتا على لوحة لزميل سرياليّ فيها خليط عجيب من الأشياء؛ إبريق مكسور سالت خمره، وحذاء أسود ضخم، وعين قبيحة شوهاء تطلّ من طرف اللوحة؛ وكان اسمها «القدر».

وانفرجت شفتا الفتاة عن صيحة استحسان، ثمّ صفقت وقالت: "عظيم".

وضحكت أنا في سرّي وقلت: "فنّانة تسعى للفنّ وفرشاتها ذيل حمار، وألوانها خليط منفّر قبيح".

وصارت تختلف إلى المعهد يوميًّا، فتقصد زاوية معيّنة ولا تكاد تلقي كبير بال إلى من حولها من الزميلات والزملاء وعلى جسمها رداء من الكتّان الخشن الكحليّ. ولا أدري ما اّلذي كان يجتذبني إليها أحيانًا فأتفرّس في وجهها المعبّر، ثمّ تنتقل عينيّ إلى لوحاتها فلا ترتاح بل ترتدّ وقد أفزعتها ألوان لا يأتلف أحمرها وأصفرها.

كانت تسألني: رأيك؟

فأقول: إنّني لا أفهمك.

وتضحك وتقول: هل أعلّمك كيف تفهم؟

فانسحبت أنا متمتمًا:"لا لا، يفتح الله".

 

***

 

قالت لي مرّة وهي تأخذ مكانها إلى جانبي في السيّارة العامّة ونحن منصرفان كلّ إلى بيته مساءً:"كأنّك تحمل لي عداوة.. أراها تقفز من عينيك كلّما نظرت إلى لوحاتي". وقلت وأنا أمدّ يدي فأشتري تذكرتين:

-أنا أعاديك؟ أنت واهمة.. ومع ذلك أرغب لو تبلغ بي العداوة للوحاتك إلى حدّ الرغبة في طمسها.

-هكذا.. ولم لا تفعل؟

-لأنّني أخشى أن يؤدّي بنا هذا إلى عداوة لا أحبّها.

-ومع ذلك، فأنا أقرأ في عينيك تلك العداوة.

-ذلك لأنّ عينيك قد تعطّلتا وصار عقلك الباطن أو غيبوبتك الّتي لا تفيق عيونًا تتطلّعين بها إلى الكون والناس، فترينها على غير ما خلق الله.

-بل أراها كما تراها نفسي.

-لتُلبِسيها أثوابًا غريبة الحياكة، ألا رحم الله فنًّا مايكل أنجلو ورفائيل ورمبرانت من أبطاله. إنّ أدعياء مدرستك من المجانين يا صاحبتي.

وهنا بلغت السيّارة أحد المواقف، فقفزتْ من السيّارة وعلى وجهها ابتسامة ساخرة.

وصرنا أصدقاء، لا نكاد نلتقي حتّى يقوم بيننا جدل حامض؛ هي بالسيرياليزم مجنونة وأنا له مسفّه ساخر، وطالما حاولت أن أصرفها عن هذا العبث، أن أجرّها إلى صفّي، أن أدعها تعترف بوجودي وتستكين لآرائي، بسخريتي من هذه الفوضى التعبيريّة الّتي تسمّيها فنًّا، فتنفر منّي ضاحكة وتبدأ في رسم لوحة جديدة تفزعني.

وسألت نفسي عن سرّ اهتمامي بها وغيرها من حملة مذهبها الكثيرون في المعهد؛ لا أعبأ بالتطلّع إلى ما يخلقون أو حتّى أدير أذنًا إلى ما يقولون، ولكنّ هذه، هذه العصبيّة الحلوة، الثائرة، المجنونة؛ لقد كنت أحبّها، ولو أنّها لا تريد أن تشعر أو تعترف بهذا الحبّ، إذ هي مشغوفة عنه بهرائها؛ الفنّيّ.

سألتها مرّة عمّا تنوي فعله بعد أن تفرغ من دراستها الفنّيّة، فقالت ببساطة بعد تفكير قصير خيّل لي معه بأنّ هذا السؤال يطوف للمرّة الأولى برأسها:

-لا شيء، سأظلّ أرسم وأرسم.

قلت أما من مشاريع أخرى، الحبّ، الزواج مثلًا.

وأجابتني وهي تنظّف يدها من بقعة دهان لصقت بها:

-لم أفكّر في ذلك بعد، لم العجلة وأمامي فسحة من الحياة، إنّي لم أعثر على.. – على ماذا؟ قوليها.

-على الفنّان الّذي يفهمني، ويحبّ لوحاتي.

وقامت عنّي وقد غاظتني منها ابتسامة خبيثة.

 

***

 

جاءتني مرّة، ووجهها منفعل حماسًا، وقالت: اسمع، سأتحدّى سخريتك وأتقدّم للمسابقة الّتي أعلنت عنها وزارة التربية والفنون الجميلة، فماذا تقول؟

-أبشّرك بالسقوط، وماذا سترسمين؟

ومدّت أصابعها الدقيقة ودفنتها في شعرها الكستنائيّ الغزير وقالت: "نفسي". وانسحبت من أمامي وتركتني أتخيّل وجهها في لوحتها، وقد غدا عجيبًا، غريبًا؛ سرياليًّا.

ثمّ قفزت فكرتها إلى رأسي ونامت فيه على استقرار، لماذا لا أتقدّم للمسابقة أنا الآخر، ولديّ من اللّوحات الناجحة العدد الكثير؟ ولكن لا، سأتقدّم بواحدة جديدة، سأرسم نعمت – وهذا اسمها- ولنرى أيّنا يكون أصدق نقلًا.

وبدأتُ لوحتي، متوسّلًا بالصورة الّتي أعيها لنعمت في مخيّلتي، ولم أدعها تعرف، إذ كنت أقوم بالرسم في بيتي.

وانتهت، وانتهيت، ورفع كلّ لوحته وترقبنا يوم العرض؛ هي ملهوفة لتعرف موضوعي، وأنا مشوّق لأرى ما جرت به ريشتها الرعناء على لوحتها الّتي حرصت على أن تخفيها عنّي.

وافتُتِحَ المعرض؛ فأغمضت عينيّ عن عشرات اللّوحات المرفوعة حتّى بلغت الزاوية الّتي عُرِضَتْ فيها لوحتها، وفتحت عينيّ وفمي معًا؛ وجهها أو شيء يفترض أن يكون وجهًا، أمّا رأسها فقد كانت شفّافة، تبدو من خلالها صور فرشاة وألوان وأخيلة، وأشياء مبهمة.

ولم تتملّكني طبيعة السخرية في تلك اللحظة، إذ كنت مذهولًا بمصادفة اكتشفتها؛ إذ كانت لوحتي، تحمل نفس الفكرة؛ وجه نعمت بملامحه الأصليّة الجميلة، بشعرها البنيّ وعينيها العسليّتين وقسماتها المميّزة، وفي فضاء الصورة رسمتُ عينيّ رجل، وخيال طفل؛ ومقلى ومكنسة وأشياء أخرى نسويّة.

إذن لقد توسّلت أنا الآخر بمثل ما يتوسّل به السرياليّون لرسم «أفكارهم»؛ فما افترقت لوحتي عن لوحتها إلّا بوضوح الخطوط وإشراقها ومراعاة النِسَبِ وصفاء الألوان.

وشاء لي الحظّ أن أفوز، فقد كان في عملي جهد ملحوظ، فكانت نعمت أوّل المهنّئين؛ شدّت على يدي وقالت:

-هيه، لقد فزت، يا سارق الأفكار.

واعتصرت يدها في يدي وقلت: سمّني سارقًا، أو مقلّدًا إنْ شئت، إذ كنت من مدرستك دون أن أفطن، فقط أرجو ألّا تغفلي فارقًا واحدًا؛ هو أنّ فكرتك بنت غيبوبة روحيّة كما تقولون، وأمّا فكرتي، فهي إلهام استيقظت بعده، وفتحت عينيّ فأحسنت النقل وأجدت استعمال المقاييس، فجاءت فكرة «عاقلة»! إنّها الصورة الطبيعيّة الّتي أحبّها وأريدك أن تؤمني بها.

 


 

عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والإبداعيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.